لكن لنكن واقعيين، فمثل هذا الكلام الذي هي تقوله انما هو من عالم الخيال ،فلا حياة في هذه الدنيا خالية من المشاكل. الأغنياء لعلهم الأكثر قلقاً على أموالهم و الأكثر خوفاً من فقدان الأشخاص المخلصين حولهم ، فالكل يعشقهم لأموالهم أو لمكانتهم و هم يعرفون ذلك و لذا لا ترى أغلبهم سعداء، حتى و لو تظاهروا بالسعادة.
هذه الحياة فيها الكثير من الكدورات ففي الفقر تعب و في الغنى قلق و خوف. في العائلة خلافات و حتى في أفضل العوائل هناك الكثير من التضحيات من الطرفين لكي تستمر الحياة. و لو صفت الحياة الزوجية قد ترى أحد الأطفال فيه مشكلة نفسية أو جسدية و اذا صفت الأمور العائلية فهناك الكثير من الناس قد يعانون من العاهات و الآلام الجسدية. و هكذا في كل جانب لابد من شيء يُكدر صفو الحياة. لأن الدنيا ليست للراحة بل هي مرحلة اختبار و امتحان و تطور نحو الكمال.
أما الآخرة فلها مراتب مختلفة
أغلب البشر متطلباتهم حسية و لذا تراهم يركضون ليلهم و نهارهم ليشتروا البيت الفاخر و السيارة الفاخرة و الأكل و الشرب و السفر و غيره من كماليات الحياة و لذا نرى أغلب مواصفات الجنة أيضا تناسب متطلبات الأغلبية و أماني الإنسان الدنيوية. فالجنة يصفها الله بطعامها و شرابها اللذيذ و فاكهتها و بساتينها و أنهارها و يصفها بالاستقرار و الراحة النفسية مثل قوله تعالى :
مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ۚ ﴿٣٥ الرعد﴾
تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا ﴿10 الفرقان﴾
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ۖ …﴿١٥﴾ محمد
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَـٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿25 البقرة﴾
و على عكس الدنيا التي فيها دائما قلق و خوف من القادم فالجنة فيها الاستقرار و الراحة و الخلد في النعيم بدون خوف من زوال النعمة (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) ﴿24 الفرقان﴾. و صدور أهل الجنة مليئة بالحب بعيدة عن الغل (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ) بعيدة عن الحزن و الخوف (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ )
و لكن ماذا عن اولئك الذين ليست جميع اهتماماتهم حسية؟
فمثلا هناك علماء لا يهتمون لا بالمسكن و لا بالمأكل و تراهم يعيشون في المختبر بدون أغلب الاحتياجات الحسية و حتى من دون عائلة لكي يستطيعوا أن يكتشفوا شيئا جديدا فهم يعشقون العلوم الجديدة.
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴿55 يس﴾
في شغل فاكهون اختلف فيها المفسرون كثيرا و لكن الأرجح هو أنهم مشغولون بما يحبون من عمل للكمال و على عكس الأعمال التي نقوم بها هنا في الدنيا بمشقة و عدم حب هناك سنفعل ما نحب لكي نتوصل إلى المراتب الأعلى فلا تتوقف مسيرة الكمال في الآخرة.
و ايضا قال تعالى:
(فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)
و يؤكد هذا المعنى أيضا الحديث النبوي الشريف الذي يشير على أن الجنة فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فلعل عالم الدنيا لا يشبه الآخرة و جميع المواصفات المذكورة في القرآن الكريم هي للتقريب الذهني. فبالتأكيد العالم الآخر متطور اكثر من هذا العالم. و مما هو متفق عليه ان الآخرة طعامها لا يسبب الأمراض و لا يحتاج الإنسان إلى دخول الحمام و لا إلى الكثير من المتطلبات الجسدية المختلفة التي تعودنا عليها هنا.
نقطة مهمة: و لأن متطلبات البشر مختلفة و اهدافهم مختلفة قال تعالى جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ) أي الله تعالى يعطي الإنسان على حسب وعيه و إدراكه و مدى رفعة الاشياء التي يطلبها. و قال تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ۖ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴿22 الشورى﴾ لعل العلماء ما يريدونه من المزيد هي المعارف و التطور
لعل هناك من يحب أن يطير بأجنحة أو لعل آخر يريد أن يطوف الكائنات و يعلم أسرار الخليقة و لعل آخر يريد شيئاً آخر. فهذه الأمور يحصل عليها الإنسان على حسب ما قدمه في الدنيا و على حسب وعيه و علو شأنه و إدراكه.
ثم بعد ذلك يقول تعالى لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴿٣٥ ق﴾ كلما يتصوره الانسان الصالح و يتمناه يعطيه الله و لكن هناك من الأمور ما هي فوق التصور و فوق الإدراك فهو لا يتصورها حتى يتمناها. ولعل هذا هو المراد من قوله وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ
فإذن هناك عطاء أولي و هي ما تشاؤه الأنفس
و هناك عطاء آخر و هو المزيد و هو فوق ما يتصوره و يتخيله الإنسان
و تؤكد هذا المعنى أيضا الآيات التالية
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ النور٣٨
فعلى حسب عقول البشرية لكل شخص ما يتمنى و الله سيزيد المحسنين.
جعلنا الله و اياكم من الذين يدخلون الجنة مع الأنبياء و الصديقين و الشهداء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق